“حملة أمنية” و”سياسة وطنية جديدة”.. هل يقضي العراق على التسول؟

6 فبراير 2024
ميادة داود / ارفع صوتك
في عيادة طبية وسط بغداد، وفي مشهد متكرر، يدخل رجل رث الثياب يحمل بين يديه أوراقاً طبية كـ”دليل” على عجزه وفاقته، ترافقه في رحلته طفلة نحيلة بثياب صيفية متسخة، وبحذاء يبرز أصابعها. تمد يدها للمراجعين بصمت ونظرة خوف وتوسّل في عينيها.
تفتح إحدى النساء حقيبتها لتمنح الرجل مبلغاً بسيطاً من المال، ليغادر مع الطفلة وصوته يرتفع بالدعاء للمرأة بشفاء مريضها.
سكرتير الطبيب، الذي فضل عدم نشر اسم العيادة، يتحدث عن عدد كبير من المتسولين يدخلون إلى العيادات يومياً لطلب المال من المرضى كونهم يعتبرونها أفضل مكان للتسول. “فمرافقو المرضى يرغبون بالدعاء لمرضاهم بالشفاء”، وفق تعبيره.
يستغل أكثر المتسولين البالغين الأطفال لاستدراج العطف. يقول السكرتير: “هذا الرجل الذي خرج للتو يصطحب الطفلة منذ عامين، يغيب قليلاً ويعود مرة أخرى أحياناً مع طفل آخر مختلف، ولا نعرف الحقيقة أبداً إذا ما كان فعلاً محتاجاً أم مجرد محتال”.
اتسعت ظاهرة التسول كثيراً في العراق، حتى بات المواطنون يرون متسولين من جنسيات أخرى يتنقلون في الأرجاء، كما يقول رئيس مؤسسة “النبلاء الإنسانية” عدنان ناصر لـ”ارفع صوتك”.
ويعتقد أن السبب الرئيسي لهذا التوسع هو “تعاطف المجتمع مع تلك الفئات وحصولها على أموال جيدة مقابل التسول تدر عليها دخلا أكبر مما لو مارست عملاً آخر”.
ويرى ناصر أن هناك فرقاً جوهرياً بين التسول الخارج من رحم الفقر، وبين الاستفادة من حالة الفقر في التسول كمهنة. “وهو ما أدى إلى الخلط بين مفهوم الفقر والتسول، فالضوابط التي ينتمي لها المتسول بعيدة عن ضوابط الفقير”.
تسعة أنماط للتسول
رصدت دراسة للباحث حسون عبود، بعنوان “تحليل جغرافي لظاهرة تسول الأطفال وأثرها على سكان مدينة الديوانية”، تسعة أنماط من التسول في العراق.
من هذه الأنماط “التسول الظاهر، بطلب المال مباشرة، وغير الظاهر أو المستتر وراء عرض خدمات رمزية مثل مسح زجاج السيارات وبيع بعض البضائع الرخيصة في الشارع. وهناك التسول الوقتي والموسمي المرتبط بوجود مناسبات ومواسم مثل شهر رمضان”.
ويوجد كذلك “التسول الإجباري” الذي يتم من قبل عوائل المتسول أو العصابات المنظمة، بالإضافة لـ”تسوّل القادر”، حيث يتم اختيار شخص تتبين قدرته على العمل، ويتحمل المسؤولية فيما لو ألقي القبض عليه ومحاكمته.
أما “تسوّل الجانح”، يقول عبود، إنه ستار يستخدمه اللصوص ليسهل لهم السرقة.
تبين الدراسة كذلك أسباب التسول في العراق، وأهمها “الفقر المؤدي إلى عدم القدرة على الوصول إلى الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، والبطالة أو عدم الرغبة بالعمل، والتفكك الأسري، وضعف الدخل وكبر حجم الأسرة التي تعتبر من أكثر الأسر عرضة لظاهرة التسول، فهي لا تستطيع تلبية مختلف حاجات أفرادها”.
وينتمي أغلب المتسولين من الأطفال إلى فئات “الغجر والنازحين وسكنة المناطق العشوائية أو الزراعية”، وفق عبود.
وسن هادي، صاحبة متجر في منطقة الصناعة المتخصصة ببيع الإلكترونيات في بغداد، تقول لـ”ارفع صوتك”، إن “عشرات المتسولين يدخلون المحال التجارية يومياً، بعضهم يتسول بشكل مباشر، وآخرون يعرضون بيع المناديل الورقية أو الأقلام أو الحلويات، لكن بطرق تسوّل”.
وتشير إلى ظهور “أساليب جديدة” للتسوّل، كأن يطلب شبان وشابات تبرعات مالية، بذريعة العمل التطوعي أو إنقاذ طفل من أمراض مستعصية بعضها يتطلب آلاف الدولارات.
“تشاجرت معي إحدى الفتيات لأنني لم أستجب لطلبها بتقديم تبرّع لمؤسسة أيتام” تتابع وسن، وأدى هذا الموقف لإحراجها أمام زبائن المحل.
تضيف: “وهم (المتسولون) يتعمدون ذلك بهداف ابتزازنا للحصول على المال”.
عقوبات قانونية
انتهت مستشارية الأمن الوطني، مؤخراً، من وضع مسودة “السياسة الوطنية لمكافحة التسول” بالتعاون مع وزارة العمل وعدد آخر من الوزارات.
يقول المتحدث باسم وزارة العمل نجم العقابي لـ”ارفع صوتك”، إن الوزارة “بانتظار المصادقة على المسودة لتقديم الرعاية وتوفير حياة كريمة للمواطنين ضمن التعليمات والضوابط”.
ويشدد أن التسول يعتبر “مخالفاً للقانون” في العراق، عطفاً على قوانين “العقوبات رقم 111 لسنة 1969″، و”رعاية الأحداث رقم 76″ و”الاتجار بالبشر رقم 28 لسنة 2018”.
في قانون العقوبات مثلاً، تنص المادة 390 و392 على الحبس البسيط والغرامات للمتسول، أو إيداعه في دور الدولة إذا ما تكرر ضبطه. وينص قانون “الاتجار بالبشر” على عقوبة الحبس والغرامة من 5 إلى 10 ملايين دينار عراقي في حال تجنيد الأطفال والاستجداء بهم. أما عقوبة قانون الأحداث فتتمثل بالإيداع بأحد دور المشردين.
في السياق نفسه، يبين المتحدث باسم وزارة الداخلية العراقية، مقداد ميري، أن وزارته “شكلت عدة حملات في بغداد والمحافظات، بعضها خلال الصباح والآخر في المساء للحد من ظاهرة التسول”.
ويُلفت إلى أن المتسولين، الذين يتم اعتقالهم، يُرحّلون إلى القضاء الذي يتولى مسؤولية محاكمتهم، فيما يتم إخلاء سبيل البعض بكفالة أو تعهد، ويُسجن البعض الآخر أو يدفع غرامة.
لم يذكر ميري عدد المعتقلين من المتسولين خلال الحملة التي تقودها وزارة الداخلية حالياً، مكتفياً بالإجابة عن سؤال الإحصائيات بأن الأعداد “متغيرة وغير ثابتة”.
ويصنف المتسولين الذين يتم اعتقالهم إلى ثلاثة أنواع: الأول من الفقراء بالفعل، والثاني ممن اعتاد التسوّل فصار مهنته، والثالث ينتمي لعصابات الجريمة المنظمة.
وشهد العام الماضي تفكيك سبع عصابات جريمة منظمة للتسول. أما المتسولون من جنسيات غير عراقية، فتتم إعادتهم إلى بلدانهم مباشرة، كما يقول المسؤول الحكومي.
وعن طريقة دخول المتسولين الأجانب إلى للعراق، يوضح العقابي: “يأتون بطريقة غير مباشرة وأحياناً من معابر غير رسمية، فيدخلون للعراق كزائرين للأماكن المقدسة، ثم ينتقلون إلى سوق العمل وينتهي بهم الأمر إلى التسول”.
لكن هذه القوانين جميعها غير كافية للحد من ظاهرة التسول، يقول عدنان ناصر، رئيس مؤسسة “النبلاء الإنسانية”، معتبرا أنها “غير رادعة بما فيه الكفاية، حيث يحتال البعض على القانون عبر الادعاء بأنه بائع متجول للتهرب من الفقرات القانونية العقابية”.
ويضيف: “بسبب ارتفاع نسبة الفقر، يجب التأكد أولاً من عدم حاجة الشخص للتسول بعد فحص مؤشر نسبة الفقر وشموله برواتب الرعاية الاجتماعية”.
أما المدعون والممتهنون للتسول رغم قدرتهم المادية، فهؤلاء كما يرى ناصر، يجب تطبيق القانون وتشديده حيالهم وحبسهم وفرض غرامات ومواد قانونية أخرى رادعة، خصوصاً لمن يستغل الأطفال بهدف الكسب المادي على حساب مستقبلهم.