البيئة والمناختقارير وتحقيقات

النزوح بسبب تغيُرِ المناخ وتداعياته على الحياة الاجتماعية والاقتصادية العراقية

25 أكتوبر 2023

علي داود
خبير في تحقيق السلام ومؤسس مشارك لسينرجي للاستشارات الاستراتيجية

وفقاً للتقرير السادس لتوقعات البيئة العالمية لغرب آسيا (GEO-6)، يؤثر التصحر على ما يقارب 40٪ من مناطق العراق، مما يجعله من الدول الأشد تضرراً بنقص المياه والطعام وارتفاع درجات الحرارة وما يصاحبها من مشاكل صحية.

وبحسب تقرير نشرته لجنة الصليب الأحمر الدولية، فإن سبب تهديد التصحر لهذه المساحة الشاسعة من الأراضي هو درجات الحرارة المرتفعة، وتضائل التساقط المطري وانعدامه، والجفاف الشديد، والعواصف الرملية والترابية المتواترة.

تُعَّدُ سياسات المياه في البلدان المجاورة سبباً رئيساً آخر يستنفذ موارد المياه المتناقصة أصلاً في العراق استنفاذاً كبيراً، مما يصعب على العديد من الفئات السكانية الحفاظ على أبسط متطلبات العيش.

وقد أجبر انحسار موارد المياه آلاف المزارعين على النزوح من مناطقهم الريفية بحثاً عن فرص اقتصادية أفضل في مراكز المدن. وبتزايد الطلب على سبل العيش المستدامة وعدم اتخاذ الحكومة أي إجراءات لتلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية المهمة، قد يصبح تغير المناخ مسبباً خطيراً في إشعال الصراعات في العراق، ناهيك عن المشكلات الأخرى التي تواجه البلد.

وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة (IOM)، شهد العراق منذ عام 2003 أحداث عنف متوالية تسببت في موجات نزوح متعددة وعيش الملايين من الناس في ظروف إنسانية مزرية. تمثلت ذروة هذه الموجات في الفترة من عام 2014 إلى 2017، عندما نزح أكثر من خمسة ملايين عراقي داخلياً إلى مناطق أخرى أأمن.

في هذه الفترة، تحول قرابة ثلث البلد إلى ساحة للصراع المحتدم والعمليات العسكرية، مما ترك النازحين داخلياً في ظروف مروعة يصارعون لكسب قوتهم ويبحثون عن فرص اقتصادية بديلة في مناطق أأمن نسبياً. بعد عام 2017، تحول وضع النازحين داخلياً من حالة الطوارئ إلى حالة البحث عن حلول دائمة، بعدما بدأت عملية عودة النازحين إلى مدنهم التي دمرتها الحرب بحلول أواخر عام 2016.

الهجرة بحثاً عن حياةٌ أفضل
اعتباراً من أيلول 2022، هناك أكثر من 11 ألف عائلة نازحة (حوالي 68 ألف فرد) في المحافظات الوسطى والجنوبية بسبب الجفاف وتدهور الأراضي وارتفاع تراكيز الملوحة في عديد من الأنهار والروافد المهمة. وقد شكل هذا خطراً كبيراً يحيق بالثروة الحيوانية والزراعة وصناعات الصيد. اضطرت عشرات العائلات في أهوار أم النَعَّاجْ في محافظة ذي قار إلى التخلي عن أسلوب حياة الأهوار الأصلي، وتركهم قوارب المشحوف وجواميس الماشية والصرايف (منازل القصب التقليدية)، والاقتراب من مصافي حقول النفط والمناطق الحضرية.

يقول هاشم خالد، وهو أحد سكان أهوار أم النَعَّاجْ جنوب العراق الذين تَهَّجَروا إلى منطقة سوق الشيوخ في ذي قار بسبب انخفاض مستويات مياه أهوار الحويزة وجفافها: “لقد فقدنا أكثر من 700 جاموس بسبب الجفاف. أخشى أن يخسر مجتمعي أسلوب حياته التقليدي ولهجته الأصلية”. على الرغم من أن الكثيرين يعدونه محظوظاً لحصوله على وظيفة في مصفاة لتكرير النفط في بلدته الجديدة، إلا أن الشعور بعدم الراحة لا يزال يؤرق النازحين مثل هشام بسبب الاختلافات الثقافية والحواجز التي تحول دون التعايش مع جيرانهم الحضريين المضيفين.

وبالمثل، أُجبرت أكثر من 1800 عائلة عائدة في جنوب نينوى على النزوح مرة أخرى بسبب الجفاف الشديد الذي أثر على الزراعة والثروة الحيوانية، وهما المصدر الأساسي للعيش في تلك المنطقة، لا سيما في البَعَّاجْ والحَضَر. إضافة للظروف المناخية المتدهورة، تواجه هذه العائلات النازحة صعوبات جمَّة أثناء انتقالها وإعادة تسكينها في مناطق مجاورة وضعها الأمني متدهور وسيادة القانون فيها ضعيفة.

تبين دراسة نشرتها مجلة فض النزاعات (Journal of Conflict Resolution) أن تغير المناخ يساهم في زيادة الصراع في العراق وأن المناطق الأكثر تضرراً من جراء تغير المناخ، مثل تلك ذات الموارد المائية المحدودة، هي الأكثر عرضةً لأن تشهد صراعات بين السكان. بالإضافة إلى ذلك، وجدت الدراسة أن خطر الصراع يرتفع طردياً بارتفاع درجات الحرارة.

لقد احتج مواطنو البصرة طوال السنوات الخمس الماضية على نقص الخدمات العامة والإهمال، والأهم من ذلك، خدمات توفير المياه. وبحسب ما ورد، فقد سُجلت أكثر من 118 ألف حالة تسمم مائي في محافظة البصرة خلال عام 2018 وحده كنتيجة غير مباشرة لارتفاع الملوحة ونقص المياه العذبة بسبب سياسات المياه في الدول المجاورة.

مع انعدام إجراءات حكومية تعالج شح المياه الذي يؤثر على المناطق الحضرية والريفية في البصرة، فإن قلة فرص العمل والنزاعات القبلية على موارد المياه والأراضي تهدد العائلات في ضواحي مدينة البصرة، خاصة في شمالها.

يميل 28٪ من سكان قرى جنوب ميسان إلى الهجرة إلى شمال البصرة بسبب نقص الأعلاف والموارد المائية لزراعة محاصيلهم وتربية مواشيهم. لقد فرض هذا عبئاً إضافياً على مجتمعات شمال البصرة وأدى إلى نشوب اشتباكات قبلية عنيفة بين الحين والآخر على الأراضي والمواشي. يُعَّدُ تهجير سكان مناطق الجنوب بسبب تغير المناخ في مقدمة اهتمامات المجتمعات الريفية، لا سيما في ميسان والبصرة وذي قار.

ووفقاً لدراسة حديثة أجرتها المنظمة الدولية للهجرة، فإن 25٪ من الأسر في هذه المناطق يساورها قلقٌ عميقٌ إزاء الهجرة التدريجية لقاطني المناطق الريفية. يشعر هؤلاء السكان المحليون أنَّه طالما استمر الإهمال، فإن تأثيرات المناخ ستستمر بتهديد سبل عيشهم، وسيظلون أكثر ميلاً للهجرة.

في الأمر أكثر مما يبدو للعيان، في قضاء المشخاب في النجف، الذي كان يُعرَفُ بمحصوله الوفير من أرزِّ العنبر الذي يسد حاجة البلد؛ ويُعّدُ واحِداً من جود أنواع الأرزِّ المنتج في العالم، لتميزه بالرائحة الفراتية الذكية. لكن مساحات حقول أرزِّ العنبر قد تقلصت في العشرين سنة الماضية من 230 ألف دونم إلى أقل من 6 آلاف دونم. أما اليوم فبالكاد يُنتَجٌ أرزِّ العنبر لاحتياجه كمياتً كبيرة من مياه الري لينمو.

لقد أثر نقص مناسيب مياه الري بسبب تغير المناخ والصراع العنيف تأثيراً بالغاً على الصناعة الزراعية وتسبب بهجرة المزارعين إلى مراكز المدن والمناطق الريفية في النجف. الدعم المستمر من المنظمات الدولية، مثل الاتحاد الدولي للصليب الأحمر(ICRC) وغيره لإحياء مثل هذه المناطق الزراعية ضروري جداً. تحتاج المشخاب وغيرها من المواقع الزراعية في وسط العراق مزيداً من الاهتمام والتدخل لمعالجة عوامل النزوح الناجمة عن تغير المناخ من ناحية، والارتقاء إلى مستوى متطلبات الأمن الغذائي على الصعيد الوطني من ناحية أخرى.


قصور سياسات المياه
تؤثر تبعات تغير المناخ على السكان في جميع أنحاء العالم وهي تدفع باستمرار الحكومات وصناع السياسات إلى اتخاذ تدابير وقائية وعلاجية للتخفيف من تأثيرها على الناس والزراعة. وضعت جارتي العراق، تركيا وإيران، العديد من السياسات المحلية التي تمنحهما أقصى استفادة من مصادر مياه المنبع لدجلة والفرات. تبيح مثل هذه السياسات للبلدين بناء السدود والقنوات لحجز أكبر كمية من المياه وإدرار حصص أصغر للعراق.

لأكثر من عقدين، لم تتمكن الحكومة العراقية من التوصل إلى اتفاقيات مع كلا الجارتين بشأن الحصول على إمدادات كافية من المياه. على الرغم من أن بعض سياسات المياه في البلدان المجاورة المعنية تنتهك بوضوح الاتفاقيات الدولية وهي بحد ذاتها محركٌ للصراع عبر الحدود، إلا أن انحسار المياه في رافدي العراق مستمرٌ ومتجه نحو الأسوأ. وفقاً لخبراء المناخ، إذا استمر الوضع على حاله، فقد يختفي كلا النهرين في الـ 25 عاماً القادمة.

من ناحية أخرى، أصبح موسم هطول الأمطار أقصر وأقل اتساقاً في السنوات الخمس الماضية. ومع ذلك، لم تبذل الحكومة العراقية سوى القليل من الجهد لخزن مياه الأمطار الغزيرة الناجمة عن الفيضانات لاستخدامها في الري، خصوصاً في منطقة غرب الأنبار، بسبب التحديات الأمنية في السنوات الست الماضية والجهود المبذولة لتأمين المنطقة من الجماعات الإرهابية التي قلَبت حياة الناس لسنوات.

بالإضافة إلى ذلك، أثرت الفيضانات على العديد من الأسر في منطقتي الرطبة والقائم في الأنبار، وخاصة بالقرب من الحدود العراقية بين سوريا والأردن والمملكة العربية السعودية، ودفعت قبائل البدو للعيش في مناطق أقرب إلى المدن التي تفتقر بالفعل إلى الخدمات الأساسية وفرص العمل بسبب النزوح الداخلي والعمليات العسكرية.

على المستوى التشريعي، سنَّ العراق قانون حماية البيئة وتحسينها رقم 27 لعام 2009، الذي ينظم استجابة الحكومة للمخاطر المناخية، والأهم من ذلك أَنَّه يعمل لصالح السكان المتأثرين بشدة بمخاطر المناخ. وبموجب هذا القانون، أنشأت الحكومة العراقية صندوق حماية البيئة المُمَوَلُ من الحكومة والمجتمع الدولي. وبحسب الناشط البيئي العراقي حسام صبحي، فإنه “على الرغم من تخصيص المخصصات المالية لهذا الصندوق، لا تتوفر معلومات كافيةٌ عنه وعن كيفية استخدامه لخدمة الفئات السكانية الضعيفة المتأثرة بتغير المناخ في العراق”.

حسام عضو في مجلس إدارة منظمة الرياضة ضد العنف، وهي منظمة مجتمع مدني يقودها الشباب تعمل على تعزيز التعايش السلمي من خلال الأنشطة الرياضية. في الماراثون الأخير الذي أقامته المنظمة العام الماضي في شارع أبو نؤاس ببغداد، رفع حسام وزملاءه من النشطاء لافتات تطالب الحكومة والمجتمع الدولي بالتعامل مع موجات الهجرة الخطيرة من الأهوار في جنوب العراق بفعل التصحر وشَّحِ المياه. بالنسبة لحسام وغيره من النشطاء البيئيين العراقيين، فإن حملات التوعية العامة هي المفتاح لزيادة الوعي بالآثار المناخية الخطيرة التي تلحق الضرر بالفئات الضعيفة في العراق.

ما تزال هناك الحاجة مُلِّحةٌ قائمة حتى يومنا هذا لوضع خطة شاملة من الحكومة العراقية للتصدي للنزوح الناجم عن تغير المناخ. على الرغم من أن المنظمات الدولية تعمل على دعم المتضررين من الأزمة من حيث توفير الغذاء وإمدادات المياه وتوفير المأوى، وكذلك مساعدة العائلات على الانتقال إلى مناطق أأمن لوجستياً، إلا أنه ما يزال مطلوباً من الحكومة اتخاذ إجراء شامل لإصلاح السياسة البيئية لجعل التغيير ممكناً.

المصدر : kapita

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى