نساء مشرقات من عراق مهزوم ..

عصام علي لائقة
اود ان اشارككم صورة وذكرى حياة شرارة (رغم اني لا اعرفها) لسببين: اولهما اني الاحظ ان الكثير من الاصدقاء من العراق ولبنان ومصر وتونس والمغرب ينظرون او يتداولون تأريخ العراق كتأريخ صنعه رجال. هذا الوعي مفبرك ومهندس لكي يكون رجولي حتى لمن يدعي انه متمدن من الرجال.
هذا التأريخ المزيف صنعته الحركات السياسية الرجولية ببساطة لان هذه الحركات ساهمت في تغييب المرأة عن الساحة الاجتماعية بموروث حقير ومزيج من القمع المعاصر والتبريرية الدكتاتورية مع تراث دموي ملئ بالفتوحات الرجولية وبدين يخاطب الرجال وينظر للمرأة كملحق جنسي ومثير للشهوات وبلا نفس (لا نفس لها). يضاف الى كل هذا المزيج الحقير ما يسمى بالموروث العشائري الذي يدعي المنافقون ان مترسخ بالعراق ويهملون ان الحركات السياسية والحكومات المتعاقبة تشجعه وتنميه وتقويه لكي تبقى في السلطة كما فعل القوميون العرب سابقا والاسلاميين حاليا.
وبرأيي فان التاريخ الواقعي لكل مجتمع هو تأريخ غير مكتوب. فالمهزوم لن يتمكن من كتابة تأريخه. وثاني الاسباب التي جعلتني انشر تأريخ هذه المرأة المشرقة هو عينيها. ان عيني حياة شرارة ايقظت في قلبي مزيج عجيب من البراءة والعزيمة. نظرات امرأة تتحدى دون ان تفقد انوثتها ورقتها.
تأريخ العراق المعاصر (المهزوم دائما) هو تأريخ شاركت فيه المرأة بقوة وبتمدن وانسانية لا تضاهى. لا كأم او زوجة او اخت خصصت ادوارهن الاجتماعية للطبخ والمسح والكنس وتربية الاطفال كما يدعي الرجوليون. بل كشخصيات قيادية حملن الالم الانساني على اكتافهن وحاولن تغيير الواقع. ان هذا لعمري اصعب بمليون مرة من رجل يقوم بهذه المهمة. فالرجل مدعوم اجتماعيا منذ طفولته. ان لدى الرجل قدرة اجتماعية هائلة على ان يقوم على ذلك وفرها له المجتمع بكل تمييزه ضد المرأة وبدعم من الايديولوجيات والحركات السياسية السائدة (بما فيها الاحزاب الشيوعية التي احتضنت الحركة النسوية لفترة مهمة). ان للرجل القدرة والمكانة لكي يعارض ويسجن ويعذب او يفقد وظيفته. حتى معارضة الرجل ووقوفه عكس التيار تكافئ ويعطى له حق ان يكون قد رسم معلما رافضا ما. اما ان تقوم امرأة بذلك؟ ان تحمل هذا الجبل الهائل من المسؤولية على كتفيها فهو لعمري شجاعة لا تضاهيها شجاعة. شجاعة انسان كاملة!. هي لا تذكر ولا تدرس ولا يعلى شأنها. ولكنها شجاعة فريدة.
حياة شرارة وجه مشرق من عراق كتبت عليه الهزيمة. الهزيمة الداخلية قبل الخارجية. وجه ارى ان واجبي ان ابرزه وخاصة لاصدقائي الشباب. تأريخ العراق ليس تأريخ صدام حسين والبعث وعبد الكريم قاسم وحمورابي او خالد بن الوليد. انه تأريخ مستمر من الصراع من اجل الحرية والانسانية. هذه هي قيمة حضارتنا التي فقدناها.
وعندما اقول ان العراق بلد الحضارة فان ذلك ليس مرتبطا باختراع الكتابة السومرية او بشريعة حمورابي او بالجنائن المعلقة البابلية او بتأريخ الذي خط بالدم من "الفتوحات" الاسلامية ولا بالعنجهية القومية وبناء المفاعلات ولا بأي منجز كاذب اخر درس لنا في المدارس وكأنه قدس الاقداس. ان تمدن العراق وتقدمه وانسانيته ومكانته جاءت من وجوه كوجه حياة شرارة ونازك الملائكة وغيرهن ملايين ممن يغيبن لانهن "مجرد نساء".
تحية لذكرى حياة شرارة. وبئس من يغمط حق النساء ويغيبهن او يعذبهن او يعاملهن بتمييز.
——————————————
حياة شرارة ــ كاتبة عراقية ولدت في عام 1935 في مدينة النجف، توفيت هي وأبنتها مها عن طريق استنشاق الغاز في 1997.انضمت إلى الحركة اليسارية في العراق ودرست في جامعة بغداد ثم سافرت في الستينات من القرن العشرين إلى روسيا لتكمل دراستها. بعد عودتها إلى العراق عملت في جامعة بغداد – كلية اللغات كأستاذة للأدب الروسي فترة من الزمن حتى بدأ نظام صدام ملاحقتها بالرغم من محاولتها عدم الاعراب عن مواقفها من سياسة الحكومات آنذاك. وانصرفت إلى التأليف والترجمة. فنشرت مقالات مثل "تأملات في الشعر الروسي"(1981) و"غريب في المدينة" ومسرحية "المفتش العام" لجوجول و"يسينين في الربوع العربية"(1989) و"مذكرات صياد"(1984) و"رودين" و"عش النبلاء" لأيفان تورجينيف و"مسرحيات بوشكين"(1986).