كاردينال في التوك توك
إنعام كجه جي
بين حضور ممثلي الطوائف المسيحية حفل تتويج فيصل الأول ملكاً على العراق في ساحة القشلة ببغداد، وبين نزول الكاردينال العراقي ساكو للتظاهر في ساحة التحرير، قرابة قرن من الزمان.
عقود مديدة كانت الكنيسة فيها تلتزم بقول السيد المسيح: «أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر». أي الانضباط بقانون البلاد دون مخالفة قانون السماء. هل هناك انتفاضة داخل الكنيسة، ورياح جديدة تهبّ من تحت الجبب السود للرهبان؟
لويس ساكو هو بطريرك بابل للكلدان، أكبر الطوائف المسيحية في العراق. كان عددهم يزيد على المليون وتقلص إلى الثلث بسبب الهجرات ثم التهجير. ومع غياب إحصائيات دقيقة فإن الأرقام تبقى ناقصة. وهم اليوم يتوزعون في البلاد الغريبة من الخليج العربي إلى نيوزيلندا. تزاوجوا، على الأغلب فيما بينهم، في الأردن ولبنان والولايات المتحدة وكندا وأستراليا وكل دول أوروبا. زادت أعدادهم وصارت لهم أحياؤهم وأسواقهم ونواديهم وفرقهم الرياضية والفنية. وصلوا أقاصي الكرة الأرضية يحملون العراق في الضمير. لم ينعزلوا عن باقي مواطنيهم ولم يتخلفوا يوماً عن تحمل قسطهم من هموم الوطن، وهي كثيرة. ساهموا في تأسيس الأحزاب السياسية وانتموا إليها واختلفوا كما اختلفت الأغلبية. دخلوا السجون وماتوا تحت التعذيب. أدوا خدمة العلم وبذلوا دمهم دفاعاً عن أرض آبائهم وأجدادهم.
حين تغير نظام الحكم في العراق من الملكية إلى الجمهورية، خفقت قلوبهم وفق نبض الشارع. ذهب الزعيم عبد الكريم قاسم لافتتاح كنيسة مار يوسف في الكرادة، عام 1959. وألقى خطاباً تناول أحداثاً وحشية وقعت في كركوك. تساءل: «هل فعل ذلك جنكيز خان أو هولاكو من قبل؟». كان التشبيه قاسياً وهو يغمز من قناة الشيوعيين. أعلن موقفاً سياسياً يليق بمنصته الشهيرة أمام وزارة الدفاع، ولا يليق بمحفل ديني وبيت من بيوت العبادة. يومها، شعر رعايا الكنيسة بأن قاسم خرج على النص وورطهم في نزاع أكبر منهم. لم يكن الخطاب المناسب في المكان المناسب.
في زمن صدام حسين، جاء إلى رأس الكنيسة الكلدانية بطريرك مثقف هو روفائيل بيداويد. درس في المعهد الكهنوتي في روما ونال الدكتوراه في الفلسفة. كان خلال دراسته رئيساً للفرقة الموسيقية في المعهد. أحب الأدب وصادق الشعراء والشاعرات. جرى ترسيمه في منصبه الكنسي العالي والبلد يلعق جراح حرب إيران والنبرة الطائفية عالية. وكان رأي البطريرك أن على الكنيسة البقاء بمنأى عن تلك الحزازات. قال: «إذا تقاتل الشيعة والسنة فإن المسيحيين سيذهبون تحت الأرجل». لم تخرج الكنيسة على طاعة قيصر.
الكاردينال ساكو فعلها. كسر تقليداً دام مائة سنة. رجل دين يحمل الماجستير في الفقه الإسلامي والدكتوراه من السوربون ووساماً في حقوق الإنسان من ألمانيا. بطريرك يجاهر برفض الطائفية ويطالب بالاحتكام للمواطنة. لم يكتفِ بالنزول مع عدد من مسؤولي الكنيسة إلى ساحة التظاهر، متوشحاً بالعلم إلى جانب الصليب، بل ركب التوك توك، رمز الانتفاضة على الفساد. لا أحد يعرف كيف نبعت تلك التكاتك الصفر والحمر مثل أسماك صغيرة تتزبلط بين الحشود. أعرب الرجل السبعينيّ، أمام الكاميرات، عن إعجابه بالشباب الذين كسروا حاجز الطائفية واستعادوا الهوية الوطنية العراقية. دعا للصلاة والصيام من أجل أن يتحلى الجميع بالحكمة ويعود السلام إلى العراق. قال: "لا أحد أكبر من الوطن. الأمر الذي لم يقدر عليه السياسيون" .