فنان عراقي يُعيد إحياء صناعة مركب ’المشحوف’ السومري
على يد فنان عراقي وبدعم من شباب عراقيين في مقتبل العمر، عادت مراكب “مشحوف” تجوب نهر دجله في بغداد. قوارب عمرها أكثر من أربعة آلاف سنة .
تجوب نهر دجلة في بغداد مراكب “مشحوف” خشبية يقودها شبان عراقيون في مقتبل العمر دعما لجهود فنّان يسعى للحفاظ على هذه القوارب التقليدية التي تعود الى أيام السومريين. ويؤكد الرسام والنحات، رشاد سليم، مؤسس جمعية “سفينة” غير الحكومية ضرورة إنقاذ “هذه الملامح الأساسية من حضارتنا التي لا تزال موجودة منذ أربعة أو خمسة آلاف عام، من الانقراض”.
قوارب عمرها أكثر من 4000 عام !
والمشحوف هو مركب مصنوع من الخشب يتخذ شكل هلال رفيع ذي مقدمة ضيّقة تعلو عن سطح المياه، وهو حافظ على تصميمه “منذ عهد السومريين”، الذين حكموا جنوب بلاد ما بين النهرين منذ آلاف السنين، وفق سليم. منذ 2018، بدأ الفنان البالغ 62 عاماً رحلة البحث على آخر صانعي “المشحوف” في العراق، قادته الى قرية الهوير بجنوب البلاد على مقربة من الأهوار، المسطحات المائية المدرجة على قائمة منظمة اليونيسكو للتراث العالمي. ولينتشل من غياهب النسيان هذا القارب المهدّد منذ عقود جراء انتشار المراكب التي تعمل بمحركات، دفع رشاد نحو إعادة صناعة “المشحوف” عبر التعاون مع أندية للألعاب المائية أو تأسيس فرق للشباب تعنى بالابحار على متن المشاحيف.
عند عصر يوم ربيعي في بغداد، تجمّع شباب في العشرينات من عمرهم لقيادة 18 من هذه القوارب خلال عرض أقيم كجزء من مهرجان ثقافي. ضرب الشبان بمجاذيفهم يمنة ويسرةً للحفاظ على توازن المراكب لدى عبورها في مياه دجلة. بالنسبة الى كثيرين، هذه الرحلة هي جزء من تجربة لا تزال ناشئة، ومنهم عمر يوسف (21 عاما) الذي بدأ قبل شهر بقيادة “المشحوف” بعدما راكم خبرة على مدى خمسة أعوام في ركوب الأمواج الشراعية. يقارن يوسف بين رياضة خبِرَها “تعتمد على الهواء ويجب الحفاظ (فيها) على توازن الجسم”، ورياضة يتعلّمها تحفّز على تحريك “الكتفين والذراعين”. لكن الأهم بالنسبة إليه هو أن “المشحوف” جزء “من تاريخ البلاد وحضارتها”.
أحياء التراث على يد الشباب
يوجد حاليا سبعة أندية مائية لكل منها ثمانية مراكب، تتوزع بين بغداد ومحافظة بابل (وسط) ومحافظات أخرى في جنوب العراق، أنشئت بفضل تمويل بريطاني أو من التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع (“ألِف”). وتسمح هذه المبادرة للشباب في أن “يتواصلوا مع البيئة”، وفق سليم الذي يبدي خشيته من الوضع “المرعب” للأنهار لجهة “ملوحة المياه والتلوث” في بلد يعاني من التغير المناخي والجفاف. ويبدي سليم منذ عقود اهتماماً بالثقافة المحلية لبلاد الرافدين.
وترعرع هذا العراقي الألماني في وسط ثقافي، فعمّه هو النحات والرسام الشهير جواد سليم، أما والده فهو الفنان والدبلوماسي نزار سليم. شارك رشاد في العام 2013، وعلى متن قوارب تقليدية، في حملة نظمتها منظمة “طبيعة العراق” غير الحكومية، حيث قطع 1200 كلم في دجلة من جنوب تركيا وحتى أقصى جنوب العراق. ولم تكن تلك المغامرة الأولى التي يخوضها.
في العام 1977، برعاية النروجي ثور هيردال، كان سليم أصغر أعضاء طاقم سفينة “دجلة” سناً، وهي سفينة ضخمة صنعت من القصب وقطعت 6800 كلم في البحر خلال 143 يوماً. انطلقت تلك السفينة من جنوب العراق وعبرت الخليج وبحر العرب مروراً بالمياه المقابلة لباكستان وصولاً إلى جيبوتي، مستعيدة التواصل عبر البحار بين حضارات بلاد ما النهرين ومصر ووادي السند القديمة.
إضافة الى المشحوف، يرغب رشاد في إحياء مركب “القفّة” الدائري المصنوع من القصب ويمكن لقطره أن يتجاوز المترين. لكن التحدي الأهم بالنسبة إليه حالياً هو إيجاد حلول مالية مستدامة أو خطة عمل للحفاظ على مشروعه وضمان “عمل للناس”.
على بعد 400 كلم في جنوب العراق، يستذكر الأربعيني زهير ريسان كيف كان طفلاً يساعد والده وأشقاءه الأكبر سناً في تصنيع المشاحيف التي يتراوح طولها بين 5 إلى 11 متراً. ويقول “لقد توقفنا منذ 30 عاماً”، لكنّ العمل عاد تدريجياً منذ نحو أربعة أعوام. داخل مضيف تقليدي مبني من القصب، يقوم ريسان بنشر الألواح ويساعد ابن عمه في تثبيتها على قارب يقومان بتصنيعه. مع ذلك، لم يترك عمله كسائق شاحنة، فصناعة المراكب وحدها لا تكفي. ويقول ريسان، وهو أب لثمانية أطفال، “لا أستطيع أن أغطي مصاريف البيت”، مضيفاً “الطلب غير كافٍ”. ويتابع “دول تأتي بحثاً عن هذا التراث ولتشجيع إحيائه. لماذا لا نقوم نحن أنفسنا بذلك؟”.
DW