تقارير وتحقيقات

زهـــــاء تواصل الإبداع

كتب محمد عارف

هذا هو الخلود، أن تستمر أعمال المُبدع تعمل حتى بعد وفاته، وهو ما تفعله إبداعات المهندسة المعمارية العراقية «زهاء حديد». لقد غادرتنا نهاية مارس 2016، وفي ميلان بإيطاليا تُعرضُ الآن تصاميمها لفندق «ميلان2» الذي سيفتتح في دبي نهاية العام الحالي. واختار القسم الثقافي في «بي بي سي» تصميمها «محطة نابولي أفراغولا» كأحد أهم المنشآت التي أقيمت عام 2017. فالمحطة توّسعُ شبكة قطارات إيطاليا فائقة السرعة. ويماثل جسر المحطة بحركته الأفعوانية دينامية شبكات سكك حديد إيطاليا، ويبلغ طولها 300 كلم. وتصميم بناية المحطة الضخمة مجزأة لمواجهة خطر الهزات الأرضية التي تقع في إيطاليا.

وفازت «زهاء» بتصميم حي «روبليوفو-أرخانغليسكويه» غرب مدينة موسكو الذي وُجد ليماهي عبقريتها المعمارية. فهو يُسمى «الحي الذكي»، لأنه يُدار إلكترونياً بالكامل، وقد صممته «زهاء» على شكل ملويات بلورية تتلوى فوق المكان، رأسياً وأفقياً، كفرقة راقصي باليه روسية. وسيضم الحي مساكن 67 ألف مقيم، ومدارس، وعيادات طبية، وهياكل مواصلات، وضواحي تجارية، إضافة إلى مؤسسات ثقافية، و800 ألف متر مربع لمكاتب القطاعات المالية والاستشارية والقانونية.

وخرج النقد الإنجليزي الرزين عن طوره في تأبين «زهاء»، معلناً «وفاة ملكة المنحنى التي لا تُضاهى، وساحرة الأشكال المتعرجة، والخارجة عن التقاليد». وتحدث النقاد عن "بناياتها التي تتحدى قوانين الفيزياء، وتبدو متدلية في الفضاء، الجدران تذوب في الطوابق، والسقوف تموج وتنتفخ، والواجهات تنصهر في جلد مخرم، وعباءات سيالة، تنقل الزائر إلى بُعد آخر، حيث يشعر كأن المشهد السامق، نحتته قوة جيولوجية لا تُقاوم".

وغادرت الحياة «زهاء» في غمرة تنفيذ أعمالها المعمارية في الصين، وأميركا، وروسيا، والمنطقة العربية، حيث تُفتتح هذا العام المرحلة الأولية من محطة «مترو الرياض»، وصممت «زهاء» بنايتها الرئيسة في ستة طوابق و4 منصات، وتَتَمّطى سقوفها على شكل أمواج، وجدرانها مشربيات مخرمة، وجسور وممرات تتلوى داخلها لتسهيل حركة المسافرين على خطوط تربط 85 محطة. ويكتمل بناء المحطة عام 2021، وكلفتها نحو 23 مليار دولار. ولا تفوتُ الأكاديميين العالميين رؤية منابع الإلهام العربية والإسلامية في أعمال «زهاء». «ميخائيل بيوتروفسكي»، زميلي في جامعة «بطرسبرغ»، والآن مدير «متحف الأرميتاج»، كتب في مقدمة دليل المعرض الاستعادي لأعمالها، عن «قدرة زهاء الفريدة في تحويل الحرف العربي إلى موجة ظافرة، ومانيفستو جمالي». ويتوقع «بيوتروفسكي» أن يمضي هذا الابتكار بعيداً، "فالخط العربي بعد كل شيء من أشكال الفن التجريدي".

و«زهاء حديد شعلة النساء والمسلمين الوضاءة». ذكرت ذلك «ياسمين شريف»، مديرة شركة «دنيس شارب آركيتكت» البريطانية. و«زهاء» ابنة بغداد وفيها فتحت عينيها في خمسينيات القرن الماضي على أساطين العمارة العالمية: «كوربوزيه» يبني «المجمع الرياضي»، و«فرانك لويد رايت» يقيم مركزاً ثقافياً، و«والتر غروبيوس» يبني «حرم جامعة بغداد». وتدفقت إبداعاتها عمارات عملاقة، مثل «مجمع العلوم» في ألمانيا، و«أوبرا غوانجو» في الصين، و«جسر الشيخ زايد» في أبوظبي. وذرفت «زهاء» دموعها حزناً على العراق في تصاميم «ناطحات سحاب» ومطارات، وسيارات، وحتى أحذية نسائية، ومزهريات أهدتني واحدة منها.

وقبل يومين من وفاتها، أرسلت «زهاء» بالموبايل رسالة مرحة، وما عرفتُ أنها في المستشفى في مدينة «ميامي» بالولايات المتحدة. وأقولُ ويحك يا عراق لا تنتحر، فنساؤك ولدن «زهاء» التي كتب عنها «دايان ساجك»، رئيس «متحف التصميم» في لندن قائلاً: «كان معظم المعماريين لا يزالون تحت سوط ولي العهد الأمير ويلز، يموّهون أعمالهم بجلود من الطابوق، أو القرميد، ويذوقون واجهاتهم بشطائر ما بعد الحداثة، آنذاك كانت زهاء لا تبني أيّ شيء»، واستدركَ: "كانت تعمل طوال الليالي، وتعيش بشكل رئيس على رسوم يتدفق بها قلمها في فيض لا يتوقف".

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى