با عادل “ثائر في جلد شاعر”
فياض موزان
هل بقيت فينا ذرة وفاء لهذا الطود الشامخ الذي اسمه مظفر النواب، هذا الثائر والشاعر أمسى مسجى على سرير الموت هذه الأيام، ويد لا قدرة لها على الإمساك بيراع أو قلم، قادر على تسطير ما تجيش وتفيض به روحه المتسامية، وما يكتنزه عقله من روائع الشعر والصور، هذا الإنسان الثائر والشاعر الذي يمسك بقبضتيه، جمر الثورة والشعر وهما سر احتراقه و وجعه وسر مرضه الأخير، بعد أن كان مخاض قصيدة نابضة تنبئ بانفجار بركان ثورة تقتلع الظلم والقهر وترسي السلام والمحبة.
ينام الآن على سرير الغربة في غرفة متواضعة على رقعة أرض -غريبة عن روحه- في ركن من أقاصي مدينة تربض على أعتاب شواطئ الخليج اسمها الشارقة ليختم حياته في مرافئ الغربة وهو في منتصف العشرية الثامنة من عمره. ، أخاله يستمع بملئ أذنيه وبروحه الشفافة اصوات المنتفضين في محافظات الوسط والجنوب، في ساحة التحرير في بغداد، وفي ساحات البصرة والعمارة، و في ساحة الحبوبي في الناصرية هذه المدن التي احتضنت اهوارها العديد من الانتفاضات والثورات التي قامت ضد ظلم الاقطاع وتعسف الحكومات المتعاقبة، يسمع النواب صداها وعنفوانها وصخبها وما قدمته من عشرات آلاف الشهداء والمصابين، وقلبه ينبض أملا في ظفرها وانتصارها، بينما هو ينتظر نهايته المفجعة هناك. يتنفس النواب الفتى البغدادي برئة سومرية عبق هذه المدن وأهوارها، ونضالاتها وثوراتها، بصورة
ربما لم ترتبط في حياة شاعر ثائر، ولم تنعكس ملامحها ومفرداتها وجميع ما فيها كما انعكست وارتبطت في حياته ولعل جل انتاجه الغزير من الشعر الشعبي انتج واستقام في كنف تلك البيئة وعلى ضفاف أهوارها، زارها مرات عديدة وعاش هناك لفترة من الزمن في مناطق عديدة من الاهوار، تشبّع من حكاياها الشعبية، وصنع منها مجدا في شعره الشعبي مضافا إلى تراثه النضالي كثائر ضد قوى وأنظمة الظلم والاضطهاد الطبقي، و ترنمت الاهوار وبيئتها في مناسبات كثيرة باشعار النواب، وكان ابرز من كتبوا عن ذلك المكان، وتلك البيئة، وهذا ما تؤكده عشرات القصائد التي كتبها مظفر النواب بعد زيارته الاولى للاهوار في عام 1956. في تلك الزيارة تعرّف مظفر النواب لاول مرة على عالم الاهوار حينما حينما زار أهوار الكحلاء وشاهد حياة أهلها هناك واستمع إلى غنائهم واسترق السمع لأحاديثهم ولهجاتهم وما احتوته من تنغيمة جذبته اليها بشكل ملفت. لقد لامست تلك الطبيعة وجمال ألوانها وتنوعها هواجس النواب وأبدعت وأنتجت معلقاته الشهيرة في الشعر الشعبي مثل وقصائده في الحب والغزل مثل "للريل وحمد"، "حن وآنه حن"، و"ترافه وليل". و "البنفسج"، وغيرها من قصائده الشعبية الشهيرة، التي تغنّى بها مشاهير الغناء العراقي.
لقد أكد النواب -بنفسه- في احدى لقاءاته الصحفية وحينما سئل عن الاسباب التي جعلته يكتب الشعر الشعبي فقال:" كنت أسمع فقط الشعر الموجود في بغداد او المغنين الذين نسمعهم في الاذاعة العراقية، الى ان رحت في عام 1955 او 1956 الى أهوار العمارة والتقيت هناك بمغنين هم جويسم و گرير وسيد فالح، وقد ذهلت فعلاً بغنائهم. وتكشف لي عالم مهمل، لكنه مليء بالجمال ويمكن ان يسد حاجة كبيرة في امكانيات الخلق لدي، كما لو وجدت طينة معجونة جيداً ومخمرة جيداً لتصنع منها تمثالاً، عالم مختمر، بما فيه من الطين والماء والقصب وأصوات الجواميس، كنت أمام عجينة حية تماماً تنتظر احداً ممن لديه فهم للمعاصرة الشعرية الحديثة ليتنبه إليها وليشتغل على المادة الخام الهائلة التي لا تنضب منابعها. كما كتبت عن مناطق الهور من قصائد… ولكن، حتى الآن أشعر أنني لم أعمل شيئاً نهائياً، هذا العالم المختمر يكفي كمنبع لأعمال ابداعية هائلة، وأنا لا أعتقد أن السلطة في العراق تخاف من الهور فقط، لكونه مكاناً للتمردات بل هناك خوف من الجمالية الموجودة في الهور، خوف من الجميل يشعر به القبيح لأنه يفضحه. لذا فإن هناك اتجاهاً لإنهاء وتدمير هذا المنبع، ومن ثم لإنهاء الشعر الذي يكتب عنه". جريدة الحياة – العدد 11783 والصادر بتاريخ 27 ايار 1995.
وفي لقاء صحفي آخر يؤكد ذلك، حيث يجيب النواب على سؤال حول بدايات ارتباطه بالشعر الشعبي قائلا:
"فترة 1956 كانت دورة ضباط احتياط، ساقونا إلي مدينة السعدية، ديالى، الدورة فيها كثير من الشخصيات التي لها دور في الحركة الأدبية والفنية في العراق مثل صلاح خالص، يوسف العاني، وكذلك بعض قادة حزب البعث علي صالح السعدي، الخشالي، في تلك الفترة دعينا من قبل احد طلاب الدورة، طبيب في احد الأعياد إلى العمارة كان معي صلاح – الذي اعدم – يوسف العاني، إبراهيم كبة، أقام لنا والده سهرة على نهر الكحلاء حضرها اشهر مغني الهور " گرير، جوسيم، سيد فالح " لأول مرة التقي بغناء من هذا النوع . لأول مرة اسمع هذا الغناء، وهو غير الذي يغنى بالإذاعة، كان كل شيء ساحرا وآسرا أدى إلى التصاقي بعامية منطقة العمارة، كل شيء كان منتشيا بطبيعة الغناء، لأول مرة اسمع "المحمداوي " من جويسم، و" گرير"شخصية آسرة، … له مجموعة من الدفوف، يبدأ يغني "وينحط" حتى يصل صوته عمق الهور، ينقل لك الهور وأنت هنا، صوته أشبه بصوت ( بول روبسن) عميق جدا، " جويسم " صوته رقيق جدا ناعم يطوح بالمحمداوي هو وسيد فالح، ومن أصواتهم وغنائهم أحسست بالغنى الموجود في عالم الهور وأبعاده والحزن الذي فيه والشجن والمعاناة والفرح أيضا، كانت عندي رغبة شديدة ان أشاهد هذا العالم، بدأ عندي نوع من النفرة من شعر عامية المدن، لان شعر عامية المدن شعر ساخر ناقد ليس فيه كثير من الصور، صادف في تلك الفترة تعرفي على صديق من تلك المنطقة "عبد الرحمان شمسي" كان يلقب بلبل الجامعة وهو من قبيلة الشموس التي تقطن في العمارة اهوار ألعماره، يملك صوتا جميلا هائلا، كان يغني في حفلات الجامعة، طلبت منه ان نذهب إلى هناك سوية حيث أهله، سحرني العالم الموجود والقصب والطيور واللهجة الجنوبية بتنوعها". مجلة المدى العراقية – العدد العاشر – الصادر في دمشق بتاريخ الاول من تموز عام 1995.
مظفر النواب ذلك الشاعر والعازف على العود الذي يعشق الموسيقى ولا غرو في ذلك فهو من أسرة تتذوق الفنون والموسيقى وتحتفي بالأدب، الأم متعلمة في مدرسة للراهبات، وتجيد الفرنسية والعزف على البيانو وأب يتلاعب بحرفية مع أوتار عوده، وعم يجيد العزف على الكمان، وجد في تلك المنطقة جملة من المغريات التي يحتاجها شاعر مرهف على شاكلته قادر على تطويع اللغة والمعنى والمفردات البسيطة وتوظيفها بشكل استثنائي، لقد ساهم في اخراج العديد من الجماليات هناك واعطاها طابعها الإنساني الرائع بعد أن تماهى مع الوجه النضالي المشرق للأهوار، وكان له مواعيد اخرى مع الاهوار في ظروف اكثر قساوة مما سبق، ترتبط بما يكتبه في ظل المتغيرات السياسية التي تحصل في العراق، سواء ما يتعلق بالصراع بين الفلاحين والاقطاعيين وما تلى ذلك من تداعيات، او ما يتعلق بمرحلة ما بعد هروبه من سجن الحلة أواخر عام 1967 حيث تنقّل متخفيا داعما للثورة في المدينة والأهوار .
لذلك بانت صفحة مفعمة بالتمرد والعنف الثوري في المنتج الشعري لمظفر النواب حينما يتعلق الامر بموضوع الثورة، جعلت كثيرا من شعره عن الثورة والكفاح المسلح في تلك المنطقة مرتبط بهاجس التمرد على الواقع والسلطة قبل اي شيء آخر.
في عام ١٩٥٩ عندما تراخى حكم عبدالكريم قاسم وتراجع و تبوأت قوى الردة واجهزة العهد البائد مواقع متقدمة في السلطة والأجهزة الإدارية والأمنية عادت سطوة بعض الاقطاعيين وتمكنهم إلى حيث كانوا قبل الثورة، وهذا ولد خوفا لدى الفلاحين وأثار غضبهم، وزاد من تذمرهم ، واحتجوا على ذلك بشدة بعد أن حصلت ملابسات ادّت الى مقتل "صاحب ملا خصاف" او صويحب الفلاح الناشط في ضواحي مدينة الكحلاء، قتل صويحب في تشرين الثاني عام 1959 في "هور المعيّل" التابع لمدينة الكحلاء، ولم يشأ النواب تفويت المشهد حيث وثّقه في قصيدة "مضايف هيل" التي يقول في بعض مقاطعها:
"مَيلن.. لا تنكَطن كحل فوكَ الدم
مَيلن وردة الخزّامه تنكَط سم
جرح صويحب بعطابه ما يلتم
لا تفرح ابدمنه لا يلگطاعي
صويحب من يموت المنجل يداعي .
***
أحاه .. شوسع جرحك ما يسده الثار
يصويحب .. وحكَ الدم ودمك حار
من بعدك ، مناجل غيظ ايحصدن نار
شيل بيارغ الدم فوكَ يلساعي
صويحب من يموت المنجل يداعي .
***
صدور الغيظ اينفثن نار على المشرگ
وچفوف الفِلح ، لمة شمس تحرگ
ها .. يلحكم .. هاي اشرايع اتمزلگ
والخنزير يزلگ بيها يالراعي
وصويحب يموت ومنجله يداعي"
ذات الحال ينطبق على قصيدة "حسن الشموس"، حيث تفوح منها رائحة الثأر والتمرد واثبات الذات، إذ جاء في بعض مقاطعها:
"چن تينة ربيع اتهز ثمرها ابگلب البساتين�چن ماي الحصو الابيض …�ايهلهل روج ويزهلل�واشيل اترابك اعله الراس�لبيوت الگصب …�والغاگه والغرنوگ … وانهلهل�هله وليدي … هله وليدي�هله وليدي …�الضوة بيك الچباشه الظلمه والمنزل
لون توگف دول يسحگها شعب الهور چي ضيمه چبير وگلبه شايل سل
اطرن هورها وكلساع اگول تثور . . . .
اگولن ما يصح گبرك ولا حطو عليه ناطور
اگولن عله ساعة ويلهج الشاجور . . .".
.
مظفر وثورات آل ازيرج
في آب من عام 1952 اندلعت انتفاضة آل ازيرج القبيلة الزبيدية المعروفة والتي تسكن في مدينة الميمونة والقرى والاهوار الملاصقة لها، التمرد لم يكن من اجل كرسي ولا زعامة بل من اجل الخلاص من سياط الاقطاع وظلمه المرير! فلاحون يكدحون من الصباح حتى المساء ولايحظون بما يستحقونه من إنتاجهم من الفلاحة الزراعية. لقد كانت ثورة بدوافع غير قبلية وان كانت قد سميت باسم قبيلة آل ازيرج وذلك لان معظم سكان مدينة الميمونة وما حولها هم من تلك القبيلة.! وهذه كانت خطيئة من خطايا الحكم الملكي عندما أسس للقبيلة العشائرية وبشكلها الاقطاعي الذي يسحق الفلاح، وهذا كان احد الاسباب المهمة وراء هروب الناس الى المدينة في تلك الفترة العصيبة من تاريخ العراق. انطلاقا من تلك المعطيات وما سبقها جاءت انتفاضة آل ازيرج، وبعد مواجهات مع الاقطاعيين دخلت الاجهزة الحكومية لتقف الى جانب الشيوخ الاقطاعيين حينها مالت الكفة لهم مما اجبر الثوار الى اللجوء الى مناق الاهوار الملاصقة لمدينة الميمونة وهي الجزء الشمالي من الاهوار الوسطى، لتكون الاهوار مرة اخرى ملاذا للثائرين. تلك الوقائع دفعت النواب بحسه الثوري وإدراكه النضالي لتخليد تلك الاحداث من خلال قصيدة "غيلان أزيرج" وغيلان هذا هو سفّان في منطقة آل ازيرج كان متعاطفا مع الثوار آنذاك. القصيدة جاءت على لسان صبيّة تعشق احد الّذين التجأوا الى الاهوار وتنتظر سفينة غيلان كي تسال عن حبيبها، من هنا اراد النواب تخليد الموقف:
"زلمنه تخوض مي تشرين حدر البردى تتنطّر
زلمنه اتحز ظلام الليل تشتل ذبحة الخنجر
زلمنه الماتهاب الذبح تضحك ساعة المنحر
يساكًي الشمس من عينك ابعز الشمس حب اخضر
لون حلت نسمة ليل شعرك تنشك العنبر
أحط الحجل للثوار كمره زغيره على المعبر
وأشيم أترف النجمات فوك شراعكم تسهر
سفن غيلان ازيرج تنحر الذارى
لون ودت سفنهم يمك أخباري
وحك عيني احط الروح عل السارى
وأقل الحسره بشليلك واشوفك ازغر اسراري
وأفك الشبكه من ابعيد أغله شراع
أشبكك شبكة النسمات للنعناع
ليش الروح يامدلول يمك تنشره وتتباع
زلمنه اتخوض مي تشرين الأول
حدر البردي تتنطّر زلمنه تغني والخنجر يشك الروح
لون كل الكصب غنه بحنيني لشوفتك يا أسمر
يسيل الكصب سل اصفر واظن المأى يتمرمر
واظن حته النجم يطفى زراكه ولا بعد يسهر
سفن غيلان ازيرج تضوى بالعبره
ياغيلان كلبي شيصبره
اخذ كل الزلم وأملى السفن ياعيني الله وياك
وفد جلمه عشك حلوه اظن الها مجان هناك
ذبها بسكتة الغبار ياغيلان
خلها اتعانك السكان ياغيلان
شارة نصر للسفان ياغيلان
يامعود دخيل امروتك السمره
دخيل الشوك احب جفك
احب ايديك وشوف شفاف لو جمره"
وجاء لمظفر في ذات السياق من قصيدة اخرى بعنوان "جد ازيرج" كتبت في عام 1961:
"يا جد الكَصب والخير والعنبر
يا جدي ، اللي كَلبك طير يحب الماي والبيدر
اخذها ، لهورك ..
الضميت بيه جروحنه من سنين
ضمها لصدرك التعبان .. وِخض جفوفها من الطين"