الكويت والانتهاكات ضد البدون: عندما يبرر اعتقال قاصر ضحية للاغتصاب بحماية الرجال
19 أيار 2024
أظهرت قضية القاصرة البدون التي تعرضت للاعتقال رفقة والدتها بتهمة تحريض رجالٍ اغتصبوها واعتدوا عليها واستغلوها علىٰ الفجور، عن تجذر الأبوية والتحيز العنصري ضد مجتمع البدون، وجهوزية الدولة الكويتية لمعاقبة أي شخص ينتمي إليه حتىٰ وإن كانت قاصرة تعرضت للانتهاك والاعتداء الجنسي وأصبحت جانية وهي الضحية.
وتعود تفاصيل القضية إلى قيام النيابة الكويتية باصدار أمرٍ باعتقال قاصرة من فئة البدون، كانت ضحية للاعتداء والاستغلال الجنسي، بتهمة “التحريض على الفجور”، وأصدرت في ذلك بياناً بلغة ذكورية ووصمية لم تراعي سن الضحية ولا ظروفها ووضعتها تحت المحاسبة عوض أن توفر لها الحماية.
وفي الوقت الذي منعت عنا أخبارها، وظروف اعتقالها، خصوصًا أن تهمة “التحريض على الفجور”، أصبحت سيفًا مسلطًا من الرجال النافذين للافلات من المحاسبة والانتقام من النساء والفتيات، فإن القاصرة البدون وضعت تحت مجهر الأبوية العنصرية كمثال ترهيبي لأقلية مجتمعية ظلت تعاني من ويلات التمييز وانعدام العدالة لعقود، وهاهي الآن تدفع ثمن جرائم النظام الأبوي في حقها.
من ناحية أخرى فإن بيان النيابة العامة المعيب، لم يكن سوى نصٍ رسمي لتبرئة المغتصبين، وألباسهم لباس الضحايا، ضحايا لقاصرة بدونيّة انتهكوها واعتدوا عليها، وما ذلك إلا نتيجةً لتحيز الدولة الجنسيّ ومنظومتها الأبويّة، وتعاملها العنصريّ المقيت مع البدون وأخص البدونيّات.
من الظلم ألا نحلل ونفكك من منظور نسوي ما ورد في هذا البيان بأن عائلة الضحية استغلتها وتاجرت بها، وأعني هنا إقدام الأب (الذي لم تذكره النيابة لسبب، رغم أنه المسؤول) والأم علىٰ هذه الجريمة، اتساقاً مع الواقع وظروفه، والتحليل لا يعني التبرير.
لماذا لم يسأل أحد من المجتمع الكويتي الذي استفرغ كراهيته علينا كنساء أولًا وثانيًا كبدونيّات: عن السبب الذي جعل العائلة ترتكب هذه الجريمة وتتاجر بالقاصرة؟ ماذا خلف الجريمة؟ ومن الذي حثّ علىٰ انتهاك حقوق الابنة القاصرة؟ نزعة إجرامية فقط؟ ضجر؟ وأين دور جهات الدولة ووزارة الداخلية تحديدًا؟ أليس من المفترض أن مركز الشرطة الذي تسجل به الشكوىٰ يقدم رعاية نفسية لضحايا الاغتصاب؟ علىٰ وجه الخصوص القاصرات؟ ويتفقدهنّ؟ ثم ما دور منظمات حقوق الطفل؟ والمدرسة في حال لم تنتزع الكويت حقها في التعليم، ألم تلاحظ المعلمات سلوك الضحية، خصوصًا أنها قاصرة ولا تجيد إخفاء كل ما تشعر به وتتعرض له؟ لماذا تعرضت قاصرة لاغتصابات متكررة وتجارة جنسية، وسجلت هذه الاغتصابات بغرض المكاسب الاقتصادية، ولم تهتم أي جهة وتضع حد للإجرام الذي حل بها؟
خلف هذه الجريمة عوامل ساهمت ببشاعتها، عوامل يؤيدها أو يتكاسل عن رفضها المجتمع. أنا أتهم التفقير والتجهيل والتمييز، والحرمان الاقتصاديّ، والحرمان من التعليم والحقوق الإنسانيّة الذي تمارسه الكويت ضد البدون، وأحمّل الدولة ومجتمعها المسؤوليّة، كل الجرائم التي ترتكبها الدولة حدّت من الخيارات الحياتيّة للأفراد البدون، وأي مجتمع لا تحصل نساؤه ورجاله على تعليم كافٍ وتنتشر به الأمية، يرتفع فيه معدل الجريمة.
بالإضافة إلى أن الطفلات البدون ليس لهنّ قيمة بالنسبة للدولة، وغالبًا ليس لهنّ وجود في سجلاتها أو بصمة. لا توجد حكومة تسأل إن تغيبن عن المدرسة أو المراجعات الحكوميّة لأنها أساسًا صادرت هذا الحق من بعضهنّ، ولا يوجد مجتمع يحاسب هذه الحكومة، ويهذبها، رغم أنه يفعل في قضايا أخرى. وبالتالي من الطبيعي جدًا أن تستغل بعض الأسر فساد وغياب الرقابة، واستبداد الكويت وجهازها المركزيّ وتواطؤ المجتمع، وتشغّل الأطفال والطفلات والقُصر.
وسبق أن بيّنا خطورة انتشار ظاهرة عمالة الأطفال في المجتمع البدونيّ، خصوصًا بعد قتل الطفل جراح عيد بائع الورود دهسًا، أقول “قتل” لأن الكويت التي لم تسمح لعائلته أن تأويه وتعيله، وسرقت منه حق الهوية والتعليم كبقيّة الأطفال هي من قتلته، والمجتمع الذي لم يحرك ساكنًا قتله بصمته وتخاذله أيضًا.
لقد طالبنا الدولة أن تأخذ هؤلاء الأطفال من الشوارع، وتضعهم بالمدارس، وتعيد حقوقهم وتعاملهم وفقًا لسنهم، وتسهّل إندماجهم في المجتمع، لكن “قد أسمعت لو ناديت حيًا .. ولكن لا حياة لمن تنادي”! .
كما أن تفاعل المجتمع مع الجريمة بشكل غير مهنيّ وغير إنسانيّ، كشف الستار عن حقيقة التحيز التي يحاولون إخفاءها وتكذّيب من تقولها، لدرجة أن بدأ الأمر وكأنهم متعطشين لأي جريمة أحد أطرافها من المجتمع البدونيّ، وإن كانت هي الضحية!
تنوّعت أشكال التمييز والكراهية، وأصبح بيان النيابة المتواطئ مع المجرمين ضد قاصرة بدونيّة وسيلة لبث خطاب الكراهيّة والعنصريّة، والتمييز علىٰ أساس النوع الاجتماعيّ، والأصل والطبقة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن أحد الذين يبررون اضطهاد المرأة وتقييد حريتها بهراء كمال عقل الرجل ودينه، هو الذي طالب بأقصى العقوبات على قاصرة لأنها “حرضت” رجال بالغين وعاقلين، ورأينا من ينادي الحكومة وجهازها النازيّ (المركزيّ) بزيادة الاضطهاد والحرمان الذي يمارس ضد البدون، لأن الجريمة أكّدت مشاعر الكراهية التي يشعرون بها تجاهنا وطبّعتها، وبررت نظرتهم لنا، نحن الدخيلات على المجتمع ضررنا أكثر من منفعتنا، وما حاجة الدولة بنا بلا منفعة؟
وهنا لا بد من توضيح أن الانتهاكات والتمييز ضد البدونيّات، وخطابات الكراهيّة لها جذور في الكويت، وقضيّة البدون كما في بلدان الخليج كالسعوديّة مثلًا كرة ثلج تدحرجت وكبرت بفعل الدولة، وليس هناك أي مؤشر على إذابتها، فمصطلح “البدون/مقيمات بصورة غير قانونيّة” يستخدم لوصف جماعة من سكّان البادية، ويطلق علينا بسبب عدم امتلاكنا لأي جنسيّة (عديمات جنسيّة).
بعض سكّان الباديّة (البدون) كانوا يعيشون في مناطق بعيدة، أو لم يعرفون بشأن مسألة الحصول علىٰ الجنسيّة، أو كعادة البدو قديمًا لا يهتمون بالأوراق وبمفهوم المواطنة، ولذلك تكاسلوا عن التقديم علىٰ الجنسيّة. ونحن اليوم، الجيل الخامس، بعد مرور 60 سنة ندفع الثمن ظلمًا، بحقوقنا وكرامتنا وأيامنا وأحلامنا.
بعد إنشاء الجهاز النازيّ (المركزيّ) بمرسوم أميريّ في عام 2010، جرىٰ توزيعنا بشكل عشوائيّ وعبثيّ علىٰ البلدان المجاورة وأحيان غير المجاورة دون أدلة ومنطقيّة، فكيف تربط امرأة بدويّة ابنة قبيلة عربيّة، لم تخرج من الجزيرة العربيّة بإرتيريا، وتدّعي أنها إرتيريّة؟ أو امرأة مواليد الكويت ولم تخرج منها، بالسعوديّة واليمن والعراق وسوريا؟
بالإضافة إلى الوقاحة التي يتعامل بها الجهاز مع البلدان التي تلفق جنسيّتها للفرد البدون، فعلى الرغم من أن بعض السفارات كذّبت ادعاءات الجهاز، ولم تجد إثباتات تدل على أن هذا الفرد من مواطنيها، إلا أن الجهاز الحكوميّ يصر على تدليسه وتلفيقه. وهذا ما سهّل على المجتمع تخويننا، والتشكيك بأصولنا ونوايانا، وما ذكرته أعلاه ليست أمثلة لإيصال الغباء والعشوائيّة، بل هي أشياء حصلت بالفعل.
الجدير بالذكر أن الموقع الرئيسيّ للجهاز المركزيّ “قصر نايف”، كان مقر حكوميّ للإعدام، وأثناء الغزو أصبح مقر رئيسيّ للتعذيب على أيدي الجيش العراقيّ، ثم تم تحويله الآن إلى مقصلة للبدون.
حسناء الشمريّة/ وعي نسوي