الرحلة من بغداد “أبي بكر” .. إلى بغداد هناء ادور
عليا إبراهيم
عندما سألتني ميا، ابنتي، عن وجهة سفري وقلت لها بغداد، جاء ردها سريعاً وغير حماسي: لماذا تذهبين دائماً إلى “هذه الأماكن؟”.
أردت سؤال ابنتي عما قصدته بـ”هذه الأماكن” فهذه زياراتي الأولى إلى بغداد والثانية إلى العراق، لكن الوقت كان ضيقاً وكان علي المضي… أنظر إلى هاتفي، أجد رسالة من صديق: “لا تنسي أن تسلّمي على علي بابا”.
أبتسم وأفكر أن ابنتي التي تضع “تلك الأماكن” في خانة اعتقد أنني أعرفها من دون ان أفهمها جيداً، لا تعرف مثلاً أن بغداد هي مدينة علي بابا! فعلي بابا، مثله مثل علاء الدين والسندباد… بالنسبة إليها تنتمي هذه الشخصيات إلى عالم ديزني ولا يمتون إلى هذه المنطقة بصلة. حتى أسماؤهم تلفظها على الطريقة الغربية: ألي بابا وألادن.
خسارة ابنتي كبيرة، أفكر وأنا أدندن من ذاكرتي “سندباد ما أحلاه في كل البلاد… تاجر، مندفع، بطل من بغداد”.
أصل إلى المدينة، أجدها ثقيلة، كئيبة. حر الصيف لم يبدأ بعد، ولكن الغبار يغطي كل شيء.
تبدأ اللقاءات… الموضوع الذي جئنا من أجله، مستقبل “داعش”، يجعل مهمة الارتخاء أصعب. هنا لا يحاول أحد أن يخفف من خطورة الوضع أو تعقيده. بعد هزيمة التنظيم العسكرية، يبدو الفساد العدو الأول للعراق. فساد على كل مستويات: الدولة، والقوانين، والمجتمع، والعشائر، ودول الجوار، ودول أخرى، بعيدة.
أرد على رسالة الصديق بالقول إنني وجدت بدل “الأربعين حرامياً”، أربعين ألفاً، ولكن لم أعثر على علي بابا.
الوضع الأمني في بغداد هو الأفضل نسبياً منذ عام 2003، وللمرة الأولى منذ أكثر من ثلاثة عقود، هناك كلام عن إمكان عودة المستثمرين. الواضح من حولنا أن هناك من بدأ. في الكرادة حيث نقيم، سلسلة مطاعم ومولات جديدة هي بأغلبيتها تركية. يخبرنا زميل صحافي أن الأتراك يسيطرون على أسواق الملابس والمطاعم، أما الإيرانيون فهم يأخذون النفط ويصدّرون كل أنواع الغذاء. كل ما يأكله العراق إيراني، حتى التمر. العراق الذي كان المصدر الأول للتمور، بات يستوردها من إيران. ليس في الأمر مصادفة، فحتى أشجار النخيل وجدت من “يغتالها” بحسب الزميل الصحافي.
سهل جداً أن يفقد أي شخص الأمل في بغداد… المدينة منهكة ورثة، مثل منزل جدة كانت تعيش عزها قبل أن تصبح فقيرة ويهجرها أبناؤها… صار المنزل مجرد جدران لا ذاكرة لها ولا مستقبل.
في زمن تُقدّر المدن فيها بحسب طول أبراجها وضخامة مشاريعها، تبدو بغداد متخلفة في سعيها إلى تجاوز وضعها الحالي… تشبه بذلك تلك النافورة التي وضعها صاحب الفندق اللبناني الذي أقمنا فيه. كان من الممكن تجاهل تواضعها لولا إصرار إدارة الفندق على التنسيق بين حركة المياه وموسيقى تتراوح بين موزارت ونشيد )موطني) في محاولة يائسة، مضحكة مبكية، للتشبّه بنافورة دبي. هذه النافورة هنا، فيما كنوز العراق المنهوبة تظهر في متاحف الخليج والعالم!
سهل جداً أن يفقد أي شخص الأمل في بغداد، إذا سمح للغبار الذي يأكل كل شيء أن يعمي بصيرته ويحجب عنه سحر المدينة. صحيح أن الرثاثة المتراكمة منذ سنوات طاغية بأحجامها وألوانها، ووجوهها المكفهرة ولكنها تفقد تسلطها على المشهد شيئاً فشيئاً… ما إن يحصل شيء ما.
مكان ما، أو شخص ما أو مجرد ابتسامة، تغيّر كل شيء. في حالتي، قد تكون تلك الرحلة الداخلية التي أخذتني إليها الدقائق التي أمضيتها أمام واحد من أجمل تماثيل النحات محمد غني جواد في المدينة. في وسط شارع أبي نواس، على ضفاف دجلة، ها هي شهرزاد تقف ممشوقة وجميلة ومتكلمة وها هو شهريار جالس على عرشه منصتاً. إنها القصة الأولى تأخذني إلى عالم ألف ليلة وليلة… تجعلني أقارن قصة بغداد بقصة الأمير الضفدع الذي لا يستطيع أن يكون جميلاً إلا إذا أحبته أميرة، والأميرة التي لن تحصل على أميرها ما لم تنظر إلى أبعد مما تراه العين.
هذه المدينة تحجب سحرها عمن لا يحبها، رحتُ أحدث نفسي.
قد تكون تلك الدقائق التي أمضيناها ننظر إلى المدينة من أعلى أبراجها، لنلتقط نهر دجلة هي ما غيّر نظرتي. ربما.
ولكن على الأغلب، ما حصل معي كان شيئاً أبسط بكثير. أعتقد أنني بدأت أرى بغداد، بعد لقاء هناء ادور.
شيء ما في ابتسامة هذه المرأة. في لمعة عينيها. في حركتها الرشيقة: فهي على رغم عمرها الذي يناهز الستين تتحرك مثل طفلة كبيرة. شيء ما في الطريقة التي تمسك بيد من تسلم عليه، تطيل الإمساك بلطف ومن دون إصرار.
شيء ما في هناء ادور يدعو إلى الاطمئنان…
لبغداد أبناء يعشقونها ولكن للعراق أمّهات. هناء ادور واحدة من هؤلاء. تخاف على الجميع ولا تخاف من أحد.
لقاؤنا معها كان للحديث عن مصير عائلات عناصر “داعش”. أكثر من 200 ألف امرأة وطفل، هم اليوم موجودون بغالبيتهم في مخيمات العزل… الوقت هو العدو الأول. إذا لم تحصل معالجات سريعة وعلى نطاق واسع، سيكون مستقبل هؤلاء الأطفال ومعهم مستقبل العراق محتوماً.
تتحدث بحماسة ابنة عشرين وخبرة بنات جيلها: الحلول ممكنة وواقعية، ولكنها تحتاج الى قرارات شجاعة: يجب أن يتم تسجيل مئات الأطفال الذين ولدوا من حالات الاغتصاب، يجب أن يسمح للأم الأيزيدية بأن تنقل دينها لأبنائها حتى لو كان والدهم مسلماً، يجب أن يكون هناك نساء في مراكز التوقيف، وأن تنظَّم حملة لاسترجاع الذين غسل “داعش” دماغهم، يجب الاعتراف بأن لـ”داعش” حاضنة اجتماعية وأن مهمة استرجاعها هي مسؤولية الدولة، ولا بد من استعادة المناطق المستعصية، والوصول إلى الضعفاء، يجب تطوير القوانين وتطبيقها… وفي بعض الحالات يجب تجاوزها وإقرار استثناءات من أجل إنقاذ حياة مئات الضحايا.
من بين هذه الحالات، قضية الإيزيديات اللواتي أنجبن من عناصر “داعش”. بحزن تقول إن الحل الأنسب لهؤلاء هو إصدار أوراق ثبوتية تسمح لهن ولأبنائهن بمغادرة العراق. حل اللجوء إلى بلاد تسمح لهؤلاء النساء بأن يبدأن حياة جديدة كريمة لا يقتصر على الإيزيديات، فهناك حالات لا تحصى من الضحايا اللواتي يواجهن خطر الموت المؤكد إذا بقين في العراق.
من بين هؤلاء، هبة، وهو (اسم مستعار) لإحدى الفتيات اللواتي يعشن في حماية دار الأمل الذي تديره هناء.
في غرفة كبيرة جلسنا نستمع إلى قصة هبة، لا تقاطعها إلا حركة ابنتها حول الغرفة، تتنقل بينها وبين هناء التي يبدو حضنها مكاناً معتاداً ودافئاً.
لا تطلب هناء من الطفلة الهدوء… تتحرك معها، تغمرها، تضعها في حضنها، تقبلها. الطفلة صار عمرها ثلاث سنوات وهي ما تزال من دون أوراق ثبوتية.
تخبرنا هبة أنها تمنّت الموت مرات كثيرة، وأنها كانت تكره طفلتها؛ بسبب كرهها لوالدها الداعشي الذي أجبرت على الزواج منه… تخبرنا عن أمها التي كانت زوجة ثالثة لرجل مات وترك لها ابنتين، وعن إخوانها من الزيجات الأخرى، الذين حرّضوا التنظيم عليها وعلى أختها بهدف الحصول على إرثيهما، تخبرنا عن اختها التي قتلها التنظيم وأمها التي ماتت قهراً وعن عائلة زوجها الداعشي التي ترفض أن تثبت نسب ابنتها… تخبرنا أنها تكره “داعش” فهم مجرمون، ولكن حقدها الحقيقي هو على عائلتها وعشيرتها. تخبرنا أنها لن تسامح أخوالها، الذين تخلوا عنها وتسببوا بموت أختها وأمها.
تكرر كم كرهت طفلتها، ثم تخبرنا كيف علّمتها هناء أن تحبها وأن ترى كيف باستطاعتها أن تجعل من حياة ابنتها مولداً جديداً لها. هناء التي تعرف أن سعي الصبية لتحصيل حقوقها سيؤدي إلى مقتلها، أقنعتها بأن تنسى كل شيء. لا البيت ولا الأموال التي كانت سترثها مهمة.
المهم أن تحصل على أوراق ثبوتية لابنتها وأن تذهب بعيداً، إلى مكان تستطيع أن تربيها فيه.
هبة التي بكت عشرات المرات خلال المقابلة، ضحكت مرة واحدة وهي تقول “أا اليوم أحب الحياة وسوف أعيش، بدل الحياة حياتين… أنا أعرف قيمة الحياة أكثر من أي منكم”.
قصة هبة تشبه بتفاصيلها أكثر قصص الخيال تشويقاً. أنظر إلى هناء بحثاً عن إجابة حول استثنائية القصة لا أجدها. أجد ابتسامة هادئة، دافئة وداعمة، إنما بلا دهشة. قصة هبة واحدة من آلاف القصص التي حصلت على مدى عقود وما مرحلة تنظيم الدولة إلا مرحلة تضاف إلى تاريخ هذا البلد… وما “داعش” إلا نتيجة ما زرعته المراحل السابقة، من الحرب مع إيران، إلى حروب الأكراد والأنفال، إلى اجتياح الكويت، ثم الحصار والاحتلال الأميركي وصولاً إلى الحرب الأهلية وثم داعش..
حصل كل ذلك… قُتِلَ من قُتِل وظلم من ظلم وهناء لم تتوقف ولم تيأس. قناعتها بأن الغد أسوأ من اليوم، فالأزمات كثيرة ومعقدة، والحلول الممكنة لا تجد من يتبناها، ولكنها لا تتوقف عن العمل ولا عن الأمل…
في بغداد، لم أجد علي بابا ولكنني وجدت العرافة الطيبة من قصة السندريلا. مثل العرافة، هناء لا تملك السلطة، ولكن بالنسبة إلى من يؤمن بها، هي أيضاً تملك عصا سحرية… وهي تعرف ما الذي يجب عمله.
من أي عراق آخر، اقتبست ديزني قصة السندريلا؟
أعود إلى ميا و”هذه الأماكن” التي تضعها هي في خانة واحدة. أفكر أنه بالنسبة إليها وإلى جيلها، لبغداد شرير اسمه (ابو بكر)، جعل من اسم المدينة كنيته. أفهم كم هي بعيدة المسافة بين عالم ابنتي وعوالمي وكم أنا مسؤولة عن ذلك. بغداد التي وجدتها بعد أيام قليلة من زيارة يفترض أن تكون مثيرة للاكتئاب، هي تلك التي عادت بي إلى صوت جدتي، تقرأ لنا قصصاً تحت شجرة الليمون: عنترة على حصانه وكهرمانة تعبئ الجرار، والسندباد طائر على بساطه السحري.
ميا التي تحب دبي، لن تقع مثلي في حب المدينة، فليس في ذاكرتها ما يجعل من بغداد مدينة لا تقاوم. قد تضحك لأن في شارع المتنبي، بائع عصير زبيب اسمه (الحاج زبالة)، اشتهر بسبب اسمه ولكن قد يفوتها إبداع العمارة، ولن يهمها من هو المتنبي.
أحاول في عقلي أنْ أحْبِكُ قصصاً تغري مخيلة ابنتي. لا يمكن أن يكون الأمر صعباً، إنها مدينة ألف ليلة وليلة وهي لم تتوقف يوماً عن البوح.
قد أبدأ من كامب سارة، حي سارة خاتون، أغنى وأجمل نساء بغداد التي تحدت الوالي العثماني الذي أراد الزواج منها على الرغم من 40 سنة تفصل بينهما. رفضت سارة الأرمنية، العرض، ووجدت في نصرتها أهل بغداد الذين جعلوا منها ملهمتهم. من حاول محو أثر سارة خاتون، مثل من يحاول تغيير اسم شارع الرشيد، يجد من يقف في وجهه. يجد بغداد تقف بوجهه. المدينة التي تنتظر عودة يهودها إلى بيوتهم التي ما تزال شاهدة على زمن كان التعايش فيه ليس ممكناً بل طبيعياً، لا يمكن أن تسمح بإبادة إيزيدييها.
قد أقول لميا ذلك حتى لو لم أكن متأكدة. قد أقول لها إن المنطقة الخضراء سينتهي دورها ولكن دجلة باق، يروي قصص الحضارات التي عبرت… سأريها كيف روى جواد سليم أسطورة كلكامش في نصب الحرية، وكيف فتح فائق حسن باب السجن في جداريته، في زمن لم يكن للحرية مكان إلا في النصب وعلى الجداريات… ربما أنجح بأن أحرك بميا حشرية لمعرفة ما حصل لعشرات التماثيل وحقيقة ما يحكى عن أن الكثير من التماثيل والنصب الموجودة حالياً، هي ليست الأصلية.
قد أحاول ولكنني على الأغلب لن أنجح. فلا أنا جدتي، ولا ابنتي أنا، لا طريق لديها إلى عوالم أخرى إلا صوت جدتها… ستكون مهمة صعبة أن أنقل اهتمام ابنتي من “أماكنها” إلى “هذه الأماكن” التي تضعها في خانة واحدة.
المهمة صعبة، ولكن ليست مستحيلة؛ ففي بغداد حتى اليوم، عرافة تملك عصا سحرية. اسألوا هناء ادور، هي تعرف.