المرأة والمجتمع المدني

أفران الطابوق تفخر أذرعهن الطرية.. فتيات ونساء في معامل “النهروان”

بغداد – غزوان جبار

انتقلت سعاد حسن (30 عاماً) من محافظة واسط الجنوبية مع بناتها وأولادها إلى منطقة النهروان جنوب شرق بغداد، للعمل في أحد معامل الطابوق، بعد أن ضاقت بها سُبل العيش، وفقدت معيلها الذي كان يقاتل ضد تنظيم داعش في الموصل. لم تدرك سعاد حجم المخاطر والمعاناة التي تنتظرها، ولم تكن المرأة الوحيدة التي اضطرت إلى النزوح نحو معامل النهروان بحثاً عن لقمة العيش. هنالك مئات النساء المطلقات والأرامل، فضلاً عن أُخريات متزوجات وفتيات يعملن مع أزواجهن، يقضين ما بين ستة الى تسعة أشهر في المعامل كل عام لجني ما يمكن جنيه من أموال تمكنهن من العيش.

 

لم تعتد سعاد على الراحة ولا تجدها في المنزل؛ فإلى جانب عملها في الطابوق منذ ساعات الفجر الأولى تعود لإطعام أطفالها، ومن ثم العودة للعمل لمزاولة العمل الى ما قبل الظهيرة لتعود مرة أخرى الى المنزل بغية تحضير الغداء والأعمال المنزلية. "لا انام إلا ساعاتٍ قليلة ومن ثم أُعاود العمل حتى عصر اليوم"، تقول سعاد.

 

حنان سلمان (29 عاماً) تعمل منذ 5 أعوام في أحد معامل طابوق النهروان، وتصطحب طفلها الصغير البالغ من العمر سنتان إلى مكان العمل خوفاً عليها، ذاك ان جميع أفراد أسرتها يعملون في المعمل وليس لديها أحد يعتني بابنتها. من جهة أخرى هناك فتيات لم يرين العالم الاّ عبر المعامل الساخنة لصناعة الطابوق. لقد اعتادت فاطمة رحيم (24 عاماً) على العمل هنا منذ 15 عشر عاماً. لم تدخل المدرسة ولم تتعلم في حياتها سوى هذا العمل الشاق، وتقول بأنها لا تترك هذه المهنة "نحن باقيات هنا فكلنا بنات وليس لدينا أخوة ليساعدونا فاعتمادنا على الله وعلى أنفسنا لكسب لقمة عيشنا".

 

قلة الماء وسوء المرافق الصحية

تتحدث سهام علي (36 عاماً) في منزل مجاور لمنزل فاطمة عن أسباب النزوح الى هذا المكان وحجم المعاناة في ظل حرارة الصيف وتقول، "تركنا منازلنا نحن وأسرنا وأقرباءنا في محافظة ذي قار وجئنا للعمل هنا، فلم يعد بالإمكان ممارسة مهنتنا السابقة ألا وهي الزراعة التي كانت موردنا الرئيس للعيش، وأصبحت هذه الخرائب التي لا تقينا من الحر الشديد، ولا تحتوي على المرافق الصحية أو أبسط مقومات الراحة، منازلنا الدائمة نحن وبناتنا وأولادنا طيلة فترة العمل".

 

وعلى الرغم من ارتفاع درجة حرارة الجو التي تتجاوز الخمسين درجة، تعيش سهام مع عائلتها إلى جانب عائلات أُخرى في بيوت غير مكيفة ولا تحتوي على مرافق صحية ملائمة، ولا ماء صالح للشرب. وعلى مقربة منها يشرب أحد اطفالها الماء من الخزان دون أن يعي انه غير صالح للشرب وقد يتسبب له بأمراض في الأمعاء والمعدة.

 

مبالغ زهيدة بلا ضمانات

تتقاضى النساء العاملات في معامل الطابوق مبالغ زهيدة لا تكفي لسد لقمة العيش، ولا العلاج من الأمراض، وأحياناً يُصاب أطفالهن بأمراض مزمنة، مما يدفع العائلة إلى صرف كل ما تم جنيه في غضون شهر أو أكثر، في مراجعة الأطباء دون فائدة. بدت هديل فالح (20 عاماً) متذمرة حين أعطاها رب العمل 100 ألف دينار (80 دولاراً أمريكياً) مقابل عملها لأسبوع كامل، فيما تتقاضى اختها فرح (22 عاماً) 120 ألف دينار (100 دولار) أسبوعياً لأنها تعمل ساعات إضافية في المساء. وتقول هديل "رأيت بعينك كم أعطاني رب العمل مقابل عملي لأسبوعٍ كامل وهو مبلغ لا يسد احتياجاتي ولا لمراجعة الأطباء إذا مرضت".

 

تبكي صبيحة خضير (55 عاماً) وهي تقول "قضيت سنوات عمري مع ابني في هذا العمل الشاق، فلا معيل لنا، وأنا مضطرة للعمل هنا لنساعد بعضنا البعض من أجل كسب لقمة العيش، وإلا قد أموت جوعاً". تتقاضى صبيحة وابنها ما يعادل 160 دولاراً أمريكياً في الأسبوع وهو مبلغ لا يكفي لإعالة الأسرة ويضطرون للعمل ساعات إضافية رغم إصابة السيدة صبيحة بالربو والاختناق في التنفس.

 

ضغط رب الأسرة والعمل على المرأة

قد يستغرب البعض حين يعرف لأول مرة ان النساء يبذلن الجهد الأكبر في صناعة الطابوق المستخدم في بناء المنازل، أكثر من الرجال الذين يقتصر عملهم على المساعدة أو قيادة المركبات وتعبئة الطابوق من الفرن في شاحنات الحمل ونقله إلى السوق.

 

يقول صالح محمد (65 عاماً) الذي يعمل برفقة بناته الأربع في أحد معامل الطابوق "ان النساء أفضل من الرجال في صفّ الطابوق، ذاك انه عمل يتطلب الصبر وقدرة التحمل ويتهرب الرجال منه، بينما تؤديه النساء مجبرات، "لأنهن يواجهن ضغوطات من قبل رب العمل ورب الأُسرة" كما يقول. وتقوم خديجة (19 عاماً) وهي ابنة صالح محمد بصفّ الطابوق يومياً، مؤكدة كلام والدها وتصف الحرارة بعد فتح أفران وإخراج الطابوق منها بالملتهبة قائلة، "بمجرد اقترابك من الفرن تشعر باحتراق جسدك، فكيف إذا ما دخلته بعد اطفاء النار وفتحه لتعبئة الطابوق منه".

 

مهنة كان يزاولها الأسرى الإيرانيين

يؤكد أحد العمال القدامى العاملين في معامل النهروان "ان الأسرى الإيرانيين كانوا يعملون في معامل طابوق النهروان، وهنالك معامل لا زالت تحتوي على ذكريات كتبها الأسرى الإيرانيون بأيديهم إبان حكم النظام السابق"، وإذا ما سلمنا بأن الأسير قد يمارس عملاً شاقاً كما يُحكم على السجناء بالأشغال الشاقة المؤبدة، نجد ان النساء في معامل طابوق النهروان واجهن نفس الحكم، الذي اشترك في إصداره أزواجهن وآباءهن الذين انتقلوا بهن للعمل في مكان أشبه بالسجن الكبير، فلا مرافق صحية ولا سكن يصلح للعيش ولا بيئة ملائمة.

 

أما عن أسباب تشغيل النساء في تلك المعامل، فتُشير احدى الباحثات الاجتماعيات إلى ان "هنالك نحو 650 معمل من بينها 260 في النهروان، تعتمد أغلبها على النساء كقوة رئيسة في العمل لأن النساء يُمثلن أيدي عاملة منخفضة الكلفة وتتمتع بالثبات والديمومة".

 

اعتداءات وانتهاكات بحق العاملات

تتعرض النساء العاملات لانتهاكات واعتداءات من قبل شباب منتشرين قرب المعامل أو في معامل مجاورة، فهنالك نساء تعرضن لحالات سرقة لما يمتلكنه من ذهب، واعتداءات جنسية، إلا انهن رفضن الحديث عن تلك الاعتداءات الجنسية، خوفاً من طردهن من العمل، أو من الفضائح في المجتمع.

 

ويشير أحد المشرفين على أعمال النساء من كبار السن إلى ان "هنالك حالات انتهاك لأعراض النساء في معامل أُخرى من قبل بعض الشباب العزاب، حدثت بسببها مشاكل وتدخل فيها العرف العشائري" ويضيف ان "بعض الشباب يستغلون تعب النساء ويعتدون عليهن جنسياً وهُن نائمات"، ويعلل أحد الباحثين الاجتماعيين أسباب عدم تحدث النساء عن تلك الانتهاكات إلى "حدوث مشاكل عشائرية أو الفضائح المجتمعية أو تعرضهن للتصفية الجسدية.

 

إجراءات وزارة الصحة والبيئة

هذه المعامل لا تتسبب بالضرر للنساء العاملات وأبناءهن وأزواجهن فقط، بل لسكان المناطق السكنية القريبة، وكان وزير البيئة الأسبق قتيبة الجبوري وجه منذ أواخر العام 2015 بإغلاق عدد من معامل الطابوق في منطقة النهروان ببغداد، عازياً سبب ذلك إلى عدم التزام تلك المعامل بالضوابط البيئية، وتأثيرها السلبي على صحة وسلامة العاملين والمواطنين وسلامة البيئة". ويقول أحد مالكي المعامل "ان هذه المعامل لا تناسب النساء والأطفال وسبق ان منعتنا الحكومة من تشغيلهم في المعامل منذ عام 2014 لكنهم يواصلون النزوح إلى معاملنا ويجبروننا على تشغيلهم لعدم وجود فرص عمل في مناطق سكناهم".

 

وفي هذا الشأن، أكد مصدر مسؤول في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ان دور الوزارة يقتصر على اتخاذ الإجراءات القانونية بحق أصحاب المعامل المخالفين استنادا إلى المادة 134 من قانون العمل رقم 37 لسنة 2015، بعد إعداد تقرير من قبل لجان التفتيش المشكلة استناداً إلى المادة 128 من قانون العمل" حيث تم توجيه 32 إنذاراً للمخالفين، وسيتم احالتهم إلى محكمه العمل في حال عدم إزالة المخالفة".

 

وبشأن تأخر الإجراءات القانونية أشار المصدر إلى "ان أعداد المفتشين لا تتجاوز عدد أصابع اليد" ويعزو ذلك إلى "قلة التعيينات في حكومة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، مما عرقل زيادة أعداد اللجان التفتيشية والتي تجري جولات تفتيشية إلى معامل الطابوق في النهار"، لافتاً إلى ان "الوزارة ستتشكل لجان تفتيشية مسائية لمراقبة تنفيذ القانون في تلك المعامل".

 

ويرتبط ذلك كله بمدى جدية الجهات المعنية في الحكومة على وضع حد لتلك الانتهاكات بحق المرأة والطفولة، والتي قد تقضي على مستقبل أسر بأكملها، وأن لا يقتصر الأمر على اصدار أحكام بغرامة أصحاب المعامل المخالفين أو اغلاق معاملهم، بل بإيجاد مهن مناسبة لهن وتعليمهن واطفالهن، من أجل زجهن في المجتمع، بعد أن فقدن مهنتهن السابقة وهي الزراعة.

*كتبت هذه القصة ضمن مشروع لمنظمة أنترنيوز لتدريب الصحفيين حول كتابة وإنتاج القصص الصحفية عن القضايا الحساسة المتعلقة بالنوع الاجتماعي (الجندر) في العراق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى